بحلول هذا الشهر، تكون قد مرت عشر سنوات على حدوث عمليات الإبادة الجماعية في رواندا.. تلك العمليات التي تمثلت في شكل موجات دموية من أعمال العنف التي تم التخطيط لها جيدا، والتي أسفرت عن مصرع مئات الألوف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، كما أسفرت أيضا عن تمزيق المجتمع الرواندي برمته وتحويله إلى أشلاء.
على مدار العقد الماضي، شغل الخبراء والمحامون- كما كان ينبغي لهم- أنفسهم بالتفكير في الأسباب التي يمكنهم الاستناد إليها في تحميل المجتمع الدولي، ودول أخرى في أفريقيا جزءا من المسؤولية عن المأساة التي وقعت في رواندا.
وأذكر هنا أنني في رحلتي التي قمت بها إلى ذلك البلد في عام 1998 قد أدليت بتصريح قلت فيه:(إننا لم نتحرك بالسرعة الكافية بعد أن بدأت أعمال القتل.. وكان ينبغي علينا ألا نسمح بتحويل معسكرات اللاجئين إلى ملاذات آمنة للقتلة.. كما كان يجب علينا القيام فورا بتسمية تلك الجرائم باسمها الصحيح ألا وهو الإبادة الجماعية).
إن الموت والدمار الذي بدأ عام 1994، لا يزال حتى اليوم يقض مضاجع الروانديين، ومضاجعنا نحن الذين عجزنا عن الرد في ذلك الوقت. من المهم لنا أن نتذكر أهوال تلك الفترة بوضوح وأمانة، كي نستفيد من دروسها من جهة، وكي نقوم بتخليد ذكري أولئك الذين لقوا حتفهم بسببها من جهة أخرى. بيد أنه من المهم للعالم في الوقت نفسه، أن يقوم بتعزيز التقدم سواء الذي تحقق بالفعل، أو الذي لا يزال ممكنا تحقيقه في تلك الدولة التي يعتبرها الكثيرون مجرد دولة صغيرة ونائية في وسط أفريقيا.
لقد عدت إلى رواندا عام 2002، بناء على دعوة وجهتها لي حكومتها. وفي الحقيقة أن ما شاهدته خلال تلك الزيارة قد جسد أمامي آلام الماضي.. ولكنه أيضا، وهذا هو المهم، كان يشير إلى إمكانيات المستقبل. لقد قمت حينها بزيارة (مركز جيوسوزي) المهيب الذي أقيم لتخليد ذكري المذبحة في العاصمة كيجالي. كما قمت أيضا بالسفر إلى، وإجراء مقابلات مع، سكان قرية (نديرا) الجديدة وهي ( قرية للمصالحة) كان يقيم فيها الناجون من المذابح الجماعية، واللاجئون، وعائلات الضحايا، وعائلات الجناة. ولم يكن من قابلتهم أثناء تلك الزيارة غافلين عن التحديات التي ستواجهها جهود المصالحة في أمة تمزقت أشلاءً بفعل أعمال القتل والترويع، ومع ذلك فإنهم تحدثوا بصراحة وبشكل مباشر عن الماضي، كما تحدثوا بنبرة مفعمة بالأمل عن قدرتهم على القيام بالمهام التي تنتظرهم.
ونظرا إلى أنني كنت أعرف ما حدث في رواندا منذ سنوات ليست بالبعيدة، فإنني تأثرت بالغ التأثر بالإيمان الذي تحدث به الأفراد الذين قابلتهم عن المصالحة، باعتبارها واجبا أخلاقيا، وشرطا حتميا للبقاء في الوقت نفسه. وفي الوقت الذي أوضح لي فيه معظم من قابلتهم، أن التهديد المتمثل في إمكانية تكرار تلك المذابح، يتطلب من الجميع يقظة دائمة، فإنهم أوضحوا لي أيضا تصميمهم على صياغة أمة جديدة.. يتعايش فيها جميع الروانديين على قدم المساواة، دون تفرقة بين عرق وآخر، ويسعى فيها الجميع إلى تحقيق المساواة والعدالة والتنمية الاقتصادية، التي تستطيع التغلب على شرور الكراهية، والتفرقة، والدمار.
ليس هناك من شك في أن رواندا لم تنجُ من الخطر بعد. فبعض أولئك الذين لا يزالون يفضلون العودة إلى الماضي،لازالوا ينفثون سموم الكراهية حتى اليوم، كما أن الناجين من المذابح لازالوا يشعرون بالإحباط بسبب عدم تلبية احتياجاتهم.
بيد أنه وبعد مرور عشر سنوات على ما يمكن وصفه بأنه تجربة عظيمة ذات مغزى كبير بالنسبة لرواندا، وبالنسبة لنا جميعا، فإنني أستطيع أن أقول إن تلك الدولة قد حققت مكاسب تدعو للإعجاب، بأي مقياس من المقاييس.
من المستحيل علينا بالطبع أن نعود إلى الماضي، وأن نقوم بإصلاح الإخفاقات الجماعية التي منينا بها، ولكنني مع ذلك أقول إن الوقت لم يفت بعد، وإنه لازال بإمكاننا استخدام إرادتنا السياسية، ومواردنا، والوفاء بالتزاماتنا العالمية المطلوبة لمعالجة التحديات الحديثة التي تواجه البلاد ومن ضمنها انتشار فيروس نقص المناعة المكتسبة الأيدز بشكل وبائي يهدد حياة جميع الروانديين.
على هذه الجبهة الجديدة يقوم الشعب والحكومة في رواندا بإظهار الإيمان والتصميم، والتعاطف الإنساني، المطلوب لمواجهة هذا التحدي الرهيب. لقد قام صناع القرار في الحكومة، كما قام المسؤولون المحليون بوضع المعركة ضد فيروس نقص المناعة/ الإيدز على رأس أولوياتهم، وذلك من خلال تخصيص ما يتوافر من موارد شحيحة، ومواجهة الوصمة المرتبطة بالمرض عن طريق الحديث بصراحة، وبشكل متكرر عن التحديات التي تواجه البلد.
ويسرني في هذا السياق أن أعلن أن مؤسستي قد قامت بتقديم يد العون لرواندا في هذا الجهد منذ عام 2002، وذلك عندما قمنا، في إطار المبادرة التي قمنا بتدشينها في مجال مكافحة فيروس نقص المناعة / الإيدز، بإرسال فريق من المتطوعين لمساعدة المسؤولين الحكوميين الروانديين ،على رسم استراتيجية شاملة لزيادة القدرة على الوصول لأنواع العلاج اللازم